ساهمت مع العشرات من السوريات والسوريين بتأسيس وإطلاق الحزب السوري الديمقراطي الاجتماعي، وأقيمت حفلة التأسيس الأسبوع الفائت في العاصمة الفرنسية باريس، وكان الإشهار مناسبة لمراجعة فكرة هذا المشروع وطريقة بنائه والأهداف التي يتطلع إلى إنجازها، وما ينتظر منه.
نشأت فكرة الحزب في سياق الحاجة السورية الملحة إلى العمل السياسي، وبالأحرى إلى قنواته وأدواته الإجرائية، فالأحزاب التقليدية تعاني من يباس فكري وتنظيمي، وتفتقد الأطر التوفيقية التي تكونت بعيد الثورة، مثل ائتلاف قوى الثورة والمعارضة، إلى الحيوية والاستقلالية ولا ترقى لمستوى اللاعب السياسي. هذا لا يعني أن الحزب جاء لتمثيل السوريين، فهذه عبارة استنفدت ولفظت منذ سنوات، والحزب كمنظمة سياسية هو كيان ينافس لانتزاع شرعية تمثيل فئات محددة لها مصالح ورؤى مشتركة، ويضع في اعتباره المنافسة مستقبلاً عبر صناديق الانتخاب للحصول على السلطة الدستورية التي تمكنه من وضع فلسفته وبرنامجه السياسيين موضع التطبيق.
يشارك السوريون في العمل السياسي بكثافة، لكن من منطلقين لا يؤدي أي منهما إلى النتيجة المرجوة. الأول، هو نمط المشاركة الفردية التي تنتهي باصطدام الناشط بمحدودية تأثيره والعجز عن التأثير والاغتراب السياسي مهما كان موهوباً ومقتدراً. والثاني، هو نمط النشاط داخل البنى الأهلية والمحلية التي تنتهي بالاحتراب الداخلي بعيداً من الهدف الاستراتيجي. وتشكيل الحزب، بالمعنى الذي نعرفه، يعني في آن معاً، تنظيم وبلورة الطاقات الفردية النشطة، وبناء ذات سياسية عابرة للبنى الأهلية إلى الأفق الوطني بالضرورة، فالعمل الحزبي فعل مواطني، يبدأ من مؤسسة ويصب نتائجه في المجال العام، ولا منافس اليوم للإطار الوطني.
في العشرات من الرحلات التي قمت بها عبر أوروبا خلال السنتين الفائتتين، كأحد الدعاة للمشروع، كثيراً ما واجهني من أدعوهم بالسؤال: “لقد نشأت عشرات الأحزاب في السنوات الماضية فما كانت النتيجة؟”.. وكان ردّي ببساطة هو أن اذكروا لي اسم حزب واحد من تلك الأحزاب؟ فلا أتلقى أي إجابة، إذاً لم تشهد الساحة تأسيس أحزاب كما يظن. ولا أتلقى إجابات ايضاً عن سبب كراهية السياسيين والمنظمات السياسية بين السوريين، وكنت دائم التساؤل عن الكيفية التي يريدون بها انشاء نظام ديموقراطي من دون أحزاب! وفيما إذا كانوا يعتقدون أن حزب يعني بالضرورة “الحزب” أي البعث؟ وإذا ما كان التنافس على السلطة السياسية مرتبطاً حصراً بفرع فلسطين والتعذيب المريع فيه وفي أضرابه حصراً.
لقد أنشأ السوريون بالفعل ما لا يحصى من منظمات المجتمع المدني والحقوقي والمؤسسات الإعلامية والإغاثية والطبية والعسكرية، لكنهم، ولأسباب تحتاج إلى الفحص والتحليل، أعرضوا عن إنشاء مؤسسات سياسية، مع أنهم قاموا بثورة لانتزاع حقهم في التجمع والتنظّم والمشاركة في السلطة، ومع إدراك نخبهم لأولوية السياسة ولكونها المظلة التي لا ينشأ أي نظام جديد بمعزل عنها، ومعرفتهم بأن غياب “السياسة” هو ما سمح في الواقع باستشراء العسكرة واستحكام أمراء الحرب، وأفسح غياب العقلانية التي يمثلها الفعل السياسي المجال لتفشي النزعات الأصولية الدينية أو العرقية وتسيّد المشهد.
لكن ما فائدة حزب في المنفى الأوروبي اليوم؟ هذا سؤال آخر من ثلاث كلمات مفتاحية. فالمنفى كثيراً ما كان منطلق حركات سياسية غيرت وجه التاريخ، وأبرز الأمثلة وأقربها، حركة فتح الفلسطينية التي تأسست في الخليج وفي ألمانيا الغربية، وتظهر السير الذاتية لبعض قادتها، مثل هاني الحسن، أن كتلة العمال الفلسطينيين في ألمانيا وعددهم حينذاك نحو عشرين ألفاً، ومجموعة الطلاب التي بلغت حوالي ثلاثة آلاف طالب، كانت منجمَ أفضل الأحجار التي بنيت منها ملحمة الكفاح في الستينيات والسبعينيات. أما كون المنفى أوروبياً، فهو تعبير مهم آخر في سياقنا الحالي، لأن نحو مليوني سوري، أي عُشر شعبنا، قد اختارها طوعاً ملجأ له، وهذا ليس بلا معنى، بل يحيل إلى الترابط الحضاري حول حوض المتوسط، والتطلع السوري الدائم إلى مراكز التقدم والحضارة. وهو لن يكون بلا نتيجة، فالسوريون سيربطون بلادهم بعجلات التقدم العالمي، وسيغيرون موقعها ومكانتها على مختلف المقاييس، من دون أن يغيروا مكانها كصلة وصل جغرافي وثقافي بين الشرق والغرب. وهذا يمكن أن يحدث “اليوم” أفضل مما حدث في أي وقت مضى، ليس بفضل العولمة وحدها، بل لأن عملية النقل الحضاري لا تتم كما فعل أسلافهم في نهاية القرن التاسع عشر عندما ترجموا الكتب ونقلوا المعارف الغربية النظرية إلى بلاد الشام، ولا تحدث بالإكراه الذي مارسته سلطة الانتداب في المرحلة الاستعمارية، بل بالتجربة الحيّة المعاشة والمجربة، باختيار الأنسب والأفضل وما يلائم السياق المحلي ويتقدم به.
الحديث عن أنسب الخيارات يقودنا إلى التساؤل عن اختيار الديموقراطية الاجتماعية كمضمون واتجاه سياسي للحزب الناشئ، وهو أمر قررته في الواقع السيرورة التاريخية لمجتمعنا لناحية تكوينه الثقافي بالغ التنوع والثراء، ولناحية ما اعتور مفهوم الدولة في نصف القرن الأخير من كونها “عدوة” للشعب. فالتصالح مع الذات، بالمعنى الاجتماعي العام، ومصالحة المجتمع مع الدولة المنتظرة ومؤسساتها المختلفة وبناء علاقة صحية بينهما، هو السبيل الوحيد من وجهة نظرنا لعبورنا نحو المستقبل وعودتنا إلى التاريخ. فمن الصحيح أن أولويتنا اليوم هي استمرار الكفاح لإسقاط السلطوية، لكن تلك اللحظة ليست نهاية التاريخ، بل إن الإجابة عن سؤال “ماذا بعد؟” هي الأهم والأخطر، وهي ما نعد له أنفسنا في الحقيقة، آخذين في الاعتبار أن اللحظة التي سيبدأ فيها وضع أسس المجتمع والدولة الراعية له في مرحلة ما بعد الدمار، هي الأهم والأكثر حساسية ودقّة.
إن كل ما ذكر أعلاه من تنظير لا يعني في الواقع الكثير، فبناء الأحزاب وعملها، علاوة عن كونه معقداً وشاقاً، هو فعل ميداني، قابل للقياس بالعين المجردة، ويقتضي على نحو دائم تطوير الأفكار والسلوك، وتنمية المهارات واكتساب الخبرات، والاستدامة والصبر للتحول إلى حركة اجتماعية. بكلمات أخرى، يحتاج العمل إلى سنوات من المثابرة والجد قبل أن تُجنى أولى الثمار، وهذه لا يعرف أوانها، فعالم السياسة دائم التقلب والتغيير، ولا أحد يمكنه التنبؤ بالتوقيت الذي ستهب فيه الرياح المواتية للسوريين، والتي ستفوتنا بالتأكيد، ما لم تكن قواربنا جاهزة، وأشرعتها منشورة.